بلال جمال

في مشهد سياسي يعكس تحولات عميقة على خريطة النفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، قام رئيس المجلس العسكري في مالي الجنرال "عاصمي جويتا" بزيارة عمل رسمية إلى موسكو في 22 يونيو 2025، على رأس وفد وزاري ومن أعضاء من المجلس الانتقالي، وبدعوة رسمية من الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين". وفي محاولة للارتقاء بالعلاقات الثنائية بين البلدين، عقد "جويتا" و"بوتين" في 23 يونيو 2025، لقاءً لتعزيز التعاون بين موسكو وباماكو في مجالات متعددة، بينها الأمن والطاقة، إضافةً إلى التركيز على الاستثمارات والتعاون التجاري والاقتصادي، والشؤون الإقليمية والدولية الراهنة. مُحفزات الزيارةثمة جملة من المُحفزات المُتداخلة التي دفعت الرئيس الروسي ورئيس المجلس العسكري في مالي إلى عقد مباحثات ثنائية في موسكو في هذا التوقيت، ويمكن بيانها على النحو التالي: 1- حاجة مالي إلى الدعم الروسي لمكافحة التهديدات الإرهابية: تأتي زيارة "جويتا" في ظل توقيتٍ تعاني فيه مالي من أزمة أمنية يُغذيها مُسلحون مرتبطون بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين، فضلاً عن جماعات إرهابية أخرى، وقد توسّع نطاق الهجمات المسلحة التي تشنها هذه التنظيمات والجماعات في الأسابيع الأخيرة، مُستهدفةً معسكرات ونقاط تفتيش تابعة للجيش المالي، ففي مطلع شهر يونيو 2025م قُتِل ما لا يقل عن 30 جندياً في قاعدة "بولكيسي"، بوسط مالي، في هجوم مسلح شنته "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم "القاعدة".وفي الآونة الأخيرة، عزز تنظيم "القاعدة" نفوذه في جنوب مالي، واقترب من العاصمة باماكو، وسط مخاوف متزايدة من سعي التنظيم للسيطرة عليها، في ظل تزايد القلق من احتمالية انهيار النظام العسكري الحاكم، خاصةً بعد إصدار الجماعة الموالية للتنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" خلال شهر يونيو 2025م، بياناً تدعو فيه إلى إقامة ما أطلقت عليه "حكومة شرعية" يتولى تشكيلها الماليون أنفسهم بعيداً عن الجيش وروسيا، التي وصفتها بأنها "دولة غازية ومحتلة"، وذلك بالتزامن مع تعزيز التنظيم لنفوذه في المناطق القريبة من باماكو، والسيطرة على قواعد عسكرية في جنوب البلاد.ولعل ذلك ما دفع "غويتا" إلى زيارة موسكو، وربما يطلب الدعم من "بوتين" في تأمين حُكمه في مواجهة التهديدات الإرهابية. حيث يرغب "جويتا" في تعزيز الدعم من روسيا والتنسيق بشأن استراتيجية مواجهة التهديدات الأمنية بشمال البلاد.2- تعزيز التحالف الاستراتيجي بين موسكو وباماكو: تأتي زيارة "جويتا" إلى موسكو في ظل ما تشهده العلاقات بين مالي وفرنسا من تدهور مستمر، في أعقاب انسحاب القوات الفرنسية من البلاد، وقيام "جويتا" بتقليص تعاونه مع باريس، وتُعتبر هذه الزيارة بمثابة رسالة واضحة لباريس وواشنطن، تؤكد توجه مالي نحو تنويع تحالفاتها الاستراتيجية عبر تعزيز العلاقات مع روسيا، التي باتت شريكاً استراتيجياً هاماً لباماكو، خاصةً بعد توقيع "جويتا" و"بوتين" خلال هذه الزيارة اتفاقات جديدة في مجالات متعددة أهمها المجالان الأمني والاقتصادي. من ناحيةٍ أخرى، قد تُثير هذه التحركات مخاوف لدى القوى الغربية، التي ترى في هذه الزيارة فرصة لموسكو لإعادة رسم خريطة النفوذ الروسي في القارة الأفريقية.3- التطلع نحو تحويل مالي إلى مركز إقليمي لتكرير الذهب: تأتي زيارة "جويتا" إلى موسكو بعد أسبوع فقط من وضعه حجر الأساس لمشروع مصفاة الذهب الجديد، الذي تتولى تأسيسه شركة "يادران" الروسية، والذي ستكون له القدرة على تعدين نحو 200 طن سنوياً. ومن المُرجح أن تُسهم هذه المصفاة في جعل مالي مركزاً إقليمياً لتكرير الذهب المستخرج في منطقة غرب أفريقيا، وذلك بحسب ما صرّح به رئيس الشركة "إيريك ساليخوف". علاوةً على ذلك، من المُحتمل أن يُسهم هذا المشروع في تعزيز سيطرة مالي على مواردها. ومقابل المكاسب التي تجنيها مالي من خلال هذه الشراكة، إلا أن هناك تقارير تُشير إلى أن هذه الشراكة تمثل أيضاً فرصة حقيقية لموسكو، حيث تحاول روسيا من خلالها الاستفادة من حضورها في البلاد، واستغلال الثروات والمعادن المتواجدة في مالي.4- رغبة روسيا في تعزيز تموضعها الاستراتيجي في غرب أفريقيا: ربما تعكس دعوة "بوتين" رئيس المجلس العسكري في مالي إلى زيارة موسكو تطلعاته نحو تعزيز تموضع روسيا الاستراتيجي في غرب أفريقيا، حيث تؤكد تقارير على استخدام الرئيس الروسي لقائه مع "جويتا" لتأكيد التزام موسكو الكامل بدعم مالي بوصفها حليفاً استراتيجياً، ولتعزيز صورتها كقوة بديلة عن الغرب تُقدم الدعم دون شروط سياسية تتسبب في إزعاج النظام العسكري، وهو ما يُمثل فرصة حقيقية لموسكو لترسيخ موقعها كلاعب رئيسي في منطقة الساحل، ويمنحها نفوذاً متزايداً في المنطقة، في محاولة لتعويض التراجع الكبير لنفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً سوريا.مُخرجات مهمةأفرزت الزيارة التي أجراها رئيس المجلس العسكري في مالي إلى موسكو ولقاؤه الرئيس الروسي نتائج بارزة، تمثلت في توقيع اتفاقيات مختلفة في مجالات متعددة، يمكن عرضها فيما يلي: 1- إنشاء لجنة حكومية للتعاون الاقتصادي والتقني: في إطار تعزيز التعاون الثنائي بين موسكو وباماكو، وقّع "جويتا" و"بوتين" عدداً من الاتفاقيات التي تُسهم في الارتقاء بهذا التعاون، وتضمنت أبرز هذه الاتفاقيات إنشاء لجنة حكومية روسية – مالية للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني، بهدف تعميق التبادلات بين البلدين وتشجيع إقامة مشاريع مشتركة تخدم مصالح البلدين.وتُمهد هذه اللجنة على المديين المتوسط والطويل، الطريق للاستثمار الروسي في القطاعات الرئيسية للتنمية في مالي، مع تسهيل وصول باماكو إلى أحدث الأسواق الروسية. كما أنها قد تُشجع على تعزيز الدعم الروسي لمواقف مالي في الهيئات الدولية.2- توقيع اتفاقية في مجال الطاقة النووية السلمية: اتساقاً مع تصريحاته بشأن وجود "مجالات واعدة للتعاون" بين مالي وروسيا، وقّع "بوتين" مع "جويتا" اتفاقية في مجال "الاستخدام السلمي للطاقة النووية"، بالشراكة مع شركة "روساتوم" الحكومية الروسية، وذلك بعد مناقشات سابقة بين الطرفين لبناء محطة نووية بتصميم روسي في باماكو كمشروع طاقة استراتيجي لمالي.ومن المُحتمل أن توفر هذه الشراكة استجابة هيكلية لأزمة الطاقة التي تواجهها باماكو، من خلال تطوير البنية التحتية المناسبة، ونقل المهارات والتقنيات، وتدريب الكوادر الوطنية في مالي. ومن المُرجح أن تُسهم هذه الاتفاقية أيضاً في تعزيز استقلالية مالي في مجال الطاقة وتقليص اعتمادها على الواردات الخارجية، لا سيما أن هذه الاتفاقية ستُسهم بشكل كبير في تعزيز التنمية الصناعية في البلاد، ودعم السيادة الوطنية في مجال الطاقة.3- إبرام اتفاقية لتنظيم أسس العلاقات الثنائية: وقع "بوتين" و"جويتا" اتفاقية ثالثة تحدد أسس العلاقات الثنائية بين مالي وروسيا، وتُجسد هذه الاتفاقية رغبة مشتركة في إرساء شراكة استراتيجية دائمة قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، إضافةً إلى التضامن في المحافل الدولية. وتُمهد هذه الاتفاقية الطريق لتعزيز التعاون في المجال الأمني، لا سيما فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، خاصةً بعد تصريح وزير الدفاع الروسي "أندرية بيلاوسوف"، خلال لقائه مع نظيره المالي "ساديو كامارا"، بأن "أولوية شراكاتنا هي تحقيق نتائج ملموسة في تعزيز الأمن والسيادة"، وهو ما يُمهد الطريق لتعزيز التعاون العسكري المشترك.4- رغبة مشتركة في رفع التعاون إلى مستوى استراتيجي: تُشكل هذه الاتفاقيات نقطة تحول رئيسية في مستوى العلاقات بين موسكو وباماكو، حيث تعكس إرادة سياسية لدى الطرفين للارتقاء بالتعاون بين مالي وروسيا إلى مستوى استراتيجي، وهو ما يُنبئ بمزيد من التعاون الثنائي بين البلدين في شتى المجالات خلال الفترة القادمة. حيث سيتم العمل على تنفيذ تلك الاتفاقيات، وبحث المزيد من فرص التعاون والاستثمار في مالي.تداعيات مستقبليةمن المُتوقع أن يكون لهذه الزيارة تداعياتها على مستقبل التعاون الروسي المالي، إلى جانب نفوذ موسكو في غرب أفريقيا ومستقبل الأوضاع في منطقة الساحل الأفريقي، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي: 1- التعاون المشترك لبناء محطة للطاقة النووية في مالي: يُمهد الاتفاق الذي تم توقيعه خلال الزيارة بين "بوتين" و"جويتا"، والمعني بـ"الاستخدام السلمي للطاقة النووية"، الطريق أمام إمكانية بناء محطة للطاقة النووية في باماكو بدعم روسي، وهو ما يُعزز من التواجد الروسي في البلاد عبر مشاريع البنى التحتية. ومن ناحية أخرى، يُسهم في مواجهة أزمة الطاقة التي تعاني منها مالي، خاصةً مع تزايد احتمالات مساهمة هذا المشروع في تعزيز استقلالية البلاد في مجال الطاقة.2- تزايُد احتمالات إقامة قاعدة عسكرية روسية في مالي: يعكس ما أفرزته زيارة "جويتا" إلى موسكو من تعزيز التقارب بين مالي وروسيا، تزايد احتمالات اتجاه الأخيرة إلى بناء قاعدة عسكرية في مالي، بالتوازي مع حرصها على توسيع نطاق الدور الذي يقوم به "الفيلق الأفريقي" التابع لروسيا، لا سيما مع إشارة تقارير متعددة إلى دخول قوافل كبيرة من الإمدادات العسكرية الروسية إلى مالي في خلال عام 2025م، ولعل حلول "فيلق أفريقيا" محل "فاجنر" يعكس انتقال العلاقات الأمنية بين روسيا ومالي إلى تعاون مؤسساتي أكبر، وهو ما يُنبئ باحتمالية تأسيس القاعدة العسكرية، خاصةً في ظل رغبة مالي المتزايدة لتعميق التعاون العسكري مع روسيا.3- تصاعُد مخاوف الجزائر من التقارب الروسي المالي: من المُحتمل أن تُثير زيارة "جويتا" إلى موسكو، باعتبارها تُمثل حلقة هامة في مسار التقارب بين البلدين، قلقاً متصاعداً في الجزائر، حيث أشار تقرير إلى أن التقارب المتزايد بين موسكو وباماكو يجعل الجزائر خارج أي معادلة جديدة تُبنى في منطقة الساحل، رغم محاولاتها المتكررة للعب دور "الفاعل الإقليمي"، سواء عبر دعم جماعات انفصالية في شمال مالي وهو ما تعتبره باماكو "سلوكاً عدائياً"، خاصةً في ظل الدعم الروسي المستمر لوحدة مالي ومحاربة الجماعات الانفصالية، أو عبر محاولات تشكيل محور مغاربي – ساحلي تكون فيه القيادة لها، رغم تحفُظ أو رفض بعض دول الجوار لهذا الأمر.ويُشار كذلك إلى أن اتساع النفوذ الروسي في منطقة الساحل، وصعود محور جديد يقوده حكام جدد في المنطقة، من شأنه إرباك حسابات الجزائر، حيث يُمكن أن يكون هذا التقارب المتزايد بمثابة تهديد للنظام الجزائري الذي يواجه أزمات داخلية مُتفاقمة، وتحديات سياسية واجتماعية متراكمة، قد تُعيد فتح ملفات حساسة مثل منظمة "القبائل"، والوضع في مخيمات "تندوف"، إضافةً إلى ما يتم وصفه بـ"فشل" سياسات النظام الجزائري في الجوار الأفريقي.مصالح متبادلةوإجمالاً، تكشف المُعطيات السابقة عن تسارُع وتيرة التقارب الروسي المالي، حيث حملت زيارة رئيس المجلس العسكري المالي إلى روسيا رسائل سياسية واستراتيجية بارزة، حيث تسعى روسيا إلى توسيع وتمديد نفوذها في أفريقيا، مُستفيدةً من الفراغ الذي خلفته القوى الغربية التقليدية في المنطقة، لا سيما فرنسا، بالتزامن مع مساعي مالي إلى تنويع تحالفاتها الاستراتيجية على المستوى العالمي، في ظل المتغيرات الجيوسياسية بالمنطقة، إضافةً إلى تطلعها نحو احتواء الهجمات الإرهابية المتصاعدة، مع تطلعها كذلك للحصول على الدعم التقني الروسي في مجال الطاقة النووية.

ما دلالات زيارة رئيس المجلس العسكري في مالي إلى روسيا؟