د. منى سليمان

عين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" يوم 4 فبراير 2024 "فاتح كاراهان" محافظاً جديداً للبنك المركزي بعد استقالة سلفه ليصبح خامس مسؤول بهذا المنصب خلال أربع سنوات فقط، وقد حظي تعيينه بترحيب داخلي وخارجي؛ نظراً إلى خبراته الاقتصادية الواسعة؛ حيث عمل بالبنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك ونائباً للبنك المركزي التركي. وتعهد "كاراهان" بالعمل على خفض التضخم الذي سجل أعلى معدل في تاريخ البلاد بواقع (65%)، وهو ما يؤثر على مختلف التعاملات الاقتصادية. ويعمل "أردوغان" على برنامج حكومي لكبح جماح التضخم وتنفيذ سياسات اقتصادية تعالج الأزمة الراهنة بالبلاد، والوصول إلى نتائج سريعة ومُرضية قبل إجراء الانتخابات المحلية التركية المقبلة المقررة في 31 مارس 2024، التي تشهد تنافساً محتدماً بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة للفوز بالولايات الرئيسية، مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير.أبعاد متعددةاستدعى قرار اختيار "فاتح كاراهان" محافظاً جديداً للبنك المركزي التركي بعد ابتعاد "حفيظة غاية أركان" عن المنصب، عدداً من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1- جدل حول أسباب رحيل "أركان": أعلنت محافظة البنك المركزي التركي السابقة "حفيظة غاية أركان" مساء يوم 2 فبراير الحالي استقالتها من منصبها بعد 8 أشهر فقط من تسلمه، وعللت ذلك بالحفاظ على أسرتها من حملة تشويه لسمعتها؛ وذلك عقب اتهامات لها بمنح والدها صلاحيات واسعة تصل حد التدخل في إجراءات تعيين وفصل الموظفين بالبنك، واستغلال مرافق تابعة للبنك بأزمير لصالح عائلتها، بينما ترددت أنباء حول "إقالتها" من الرئيس "أردوغان" نتيجة لانزعاجه من تصريح لها حول ارتفاع أسعار إيجار الشقق بإسطنبول. وقد عين "أردوغان" نائبها "فاتح كاراهان" خلفاً لها. وكان لهذا القرار السريع عدد من الأبعاد، لعل أبرزها:1- امتلاك "كاراهان" خبرات مصرفية: يعد "فاتح كاراهان" (42 عاماً) من أصغر محافظي البنك المركزي التركي، وتلقى تعليمه في إسطنبول، وتخرج في قسمي الرياضيات والهندسة الصناعية بجامعة "بوغازيجي"،&nbsp;ثم حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وعمل خبيراً اقتصادياً في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك لمدة عقد تقريباً، وتولى منصب كبير الاقتصاديين في شركة "أمازون" عام 2022، ثم عُين نائباً لرئيس البنك المركزي التركي في نهاية يوليو 2023، وخلال فترة عمله أيد قرارات رفع سعر الفائدة بالبنك.2- تعهد المحافظ الجديد بخفض التضخم: تعهد "كارهان"، في أول بيان صحفي له يوم 4 فبراير الحالي فوز تعيينه بمنصبه الجديد، بالحفاظ على "سياسة نقدية متشددة حتى ينخفض التضخم إلى مستويات تتفق مع هدف البنك، وتستقر الأسعار. ونحن على استعداد للتحرك في حالة حدوث أي تدهور في توقعات التضخم"، كما قرر&nbsp;تطبيق الفائدة على الاحتياطات الإلزامية بالليرة التركية؛ من أجل تعزيز آلية التحويل النقدي، وزيادة حصة ودائع الليرة التركية.3- دعم سياسي تركي لتعيين "كاراهان": رحبت الأوساط الاقتصادية التركية بتعيين "كاراهان"؛ حيث أشاد وزير المالية التركي "محمد شيمشك" به ووصفه بأنه "مناسب بشكل ممتاز"، وأبدى تطلعه إلى العمل معه لتنفيذ البرنامج الاقتصادي للحكومة التركية. وجدد "شيمشك" الالتزام بدعم عملية خفض التضخم من خلال استعادة الانضباط المالي وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية، وقد تأكد أن التعيين تم بعد الدعم الشخصي من "شيمشك" له، كما أعلن نائب رئيس الجمهورية التركية "جودت يلماز" دعمه لـ"كاراهان". وأكد مراقبون أن تعيين أحد نواب المحافظ لرئاسة البنك يؤكد دعم الرئيس التركي "أردوغان" لاستراتيجية البنك المركزي الحالية، وأنه يحتوي أي مخاوف بشأن فقدان الدعم السياسي للبنك على المدى القريب، ويمنع حدوث أي اضطراب جديد بالاقتصاد التركي.4- ترحيب دولي بقرار التعيين: حظي تعيين "كاراهان" باهتمام البنوك الدولية؛ فقد أصدر بنك "جيه بي مورجان" الأمريكي تقريراً أشاد فيه بتعيين "كاراهان"؛ لأنه سيؤدي إلى زيادة التنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية بتركيا وخفض التضخم النقدي، وأصدرت شركة الأموال الأمريكية العملاقة "JPMorgan" بياناً يثمن دور "كاراهان" خلال عمله نائباً لمحافِظة البنك في تسريع زيادة أسعار الفائدة، وتوقع نجاحه في منصبه الجديد.5- الحفاظ على سياسة نقدية متشددة: يوصف "كاراهان" بأنه من أكثر المدافعين عن السياسات النقدية المتشددة؛ ما ينذر بأنه سيتبع تلك السياسة لتقليل التضخم وتحسين قيمة الليرة التركية بعد خفض سعر الصرف ليسجل (30 ليرة لكل دولار أمريكي)؛ حيث فقدت 80% من قيمتها خلال السنوات الخمس الماضية، كما من المنتظر الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول، وربما يتم خفضها في الربع الأخير من العام الحالي، كما يجب على الحكومة التركية تحقيق التوازن بين سياسات التصدير والاستيراد والإنفاق الحكومي والسياسات النقدية، لكبح جماح التضخم، وإعادة تشجيع السياحة باعتبارها مصدراً مهماً جداً لتركيا. جدير بالذكر أن البنك المركزي التركي رفع أسعار الفائدة 8 مرات متتالية منذ مايو 2023، وكان آخرها في نهاية يناير الماضي بمقدار 250 نقطة أساس ليصل المعدل إلى 45٪.6- توقعات إيجابية لمستقبل الاقتصاد التركي: رغم الأداء المتعثر للاقتصاد التركي حالياً بفعل ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض سعر صرف الليرة، فإن وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني عدلت النظرة المستقبلية لتركيا من مستقرة إلى إيجابية، وأرجعت ذلك إلى حدوث تغييرات حاسمة في السياسة الاقتصادية للبلاد بما يحسن احتمالات خفض معدلات التضخم المرتفعة، كما أبقت الوكالة على تصنيف تركيا عند "B3"، وهو تصنيف أقل بست درجات من "درجة الاستثمار" المرتفعة، بينما صدرت توقعات بانخفاض قيمة الليرة؛ حيث توقع بنك "دويتشه فيله" الألماني ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية نهاية العام الجاري ليسجل (38 ليرة)، بينما رفع بنك "جولدمان ساكس" ذلك السعر ليصل إلى (40 ليرة تركية مقابل كل دولار)، كما أن تعيين "كاراهان" يشير إلى استمرار التحول إلى سياسات اقتصادية تقليدية أكثر ملاءمةً للمستثمرين؛ ما سيؤدي إلى جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية للبلاد.تداعيات سياسيةرغم الترحيب بقرار تعيين "كاراهان" فإن له العديد من التداعيات السياسية على الداخل التركي، لا سيما مع قرب إجراء الانتخابات المحلية بالبلاد التي لا تقل أهميةً وزخماً عن نظيرتها الرئاسية؛ وهذا كما يلي:1- اتهامات لأردوغان بالتدخل في سياسة البنك المركزي: انتقد رئيس حزب "الديمقراطية والتقدم" "علي باباجان" تكرار تغيير محافظ البنك المركزي التركي في السنوات الأخيرة؛ لأنه يؤدي إلى عدم استقرار السياسات الاقتصادية، وأشار إلى أن الأولى بتقديم استقالته هو "أردوغان"؛ لأنه "يعطي تعليمات خاطئة" أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم بالبلاد، وهو ما اتفق عليه بعض المحللين الاقتصاديين الذين أكدوا أن عدم استمرار محافظ البنك المركزي لفترة طويلة يعد مؤشراً على عدم استقلالية البنك المركزي وسياسته النقدية؛ ما يؤثر سلبياً على الاستقرار الاقتصادي، ويعكس صورة سلبية عنه للخارج.جدير بالذكر أن "أردوغان" اعتاد تغيير رؤساء البنك المركزي التركي خلال آخر خمس سنوات؛ لرفضهم سياسته الخاصة بخفض أسعار الفائدة؛ حيث تم تغيير 5 محافظين هم "دورموش يلماظ" الذي يعد أطول من تولى المنصب (2006–2011)، ثم "أراد باشيشجي" الذي تولى المنصب حتى عام 2016، والذي خلفه "مراد شتينكايا" لثلاث سنوات، وعين "مراد أويصال" لمدة عام بعض العام، أعقبه "ناجي أغبال" لمدة عام واحد، ثم "شهاب كاوجي أوغلو" لعام ونصف، وفي يونيو 2023 عينت "حفيظة إركان".2- مواصلة تنفيذ الحكومة برنامجها الاقتصادي: جدد الفريق الاقتصادي بالحكومة التركية التمسك بتنفيذ البرنامج الاقتصادي والحفاظ على السياسات التقليدية؛ وذلك رغم انتقادات أحزاب المعارضة له، وتعهد وزير المالية التركي "محمد شيمشك" بأن تشهد نهاية فبراير الحالي بداية انخفاض معدلات التضخم، ويبدأ التحسن الدائم في عجز الحساب الجاري، وانضباط الميزانية، وتعزيز أسس النمو المرتفع المستدام، على أن يتم تراجع كبير في معدلات التضخم في النصف الثاني من العام الحالي. وجدير بالذكر أن الاقتصاد التركي قد نما بنسبة 5.9% في الربع الثالث من عام 2023 وهو أعلى من المعدل المتوقع.3- تزايد حدة الصدام بين أردوغان والمعارضة: انتقد الرئيس "أردوغان" حزب الشعب الجمهوري المعارض ضمنياً خلال خطاب له بالعاصمة أنقرة ضمن الحملة الدعائية للانتخابات المحلية، وأكد أن "هناك من يشن حملات من الشائعات الغريبة التي ستعكر مناخ الثقة والاستقرار في اقتصادنا، الذي وصلنا إليه بشق الأنفس"، وطلب من أعضاء حزبه "عدم ترك أي مساحة لأصحاب حملات الأكاذيب والافتراء والتشويه قبل الانتخابات". وهاجم "أردوغان" رئيس بلدية إسطنبول الحالي "أكرم إمام أوغلو" مرشح حزب "الشعب الجمهوري بالانتخابات المحلية عن إسطنبول من دون ذكره اسمه صراحةً، واتهمه بالاقتراض دون سبب، ورفع معدل الديون على البلدية لتبلغ 3 مليارات دولار.4- مراهنة النظام الحاكم على تعزيز فرصه في الانتخابات المحلية: يتوقع ارتفاع معدلات التضخم بالتزامن مع إجراء الانتخابات المحلية في نهاية مارس المقبل بسبب الزيادات المرتبطة بها في الإنفاق العام؛ لذا يرغب الرئيس "أردوغان" في تحقيق أي خفض ملموس لمعدل التضخم قبل إجرائها ليعزز شعبيته. ويسعى "تحالف الشعب" الحاكم الذي يضم حزبي (العدالة والتنمية والحركة القومية) إلى توسيع دائرة تحالفاته عبر ضم أحزاب جديدة إليه تضمن فوزه بالانتخابات البلدية، بيد أنه فشل في ذلك حتى الآن؛ حيث رفض&nbsp;رئيس حزب "الرفاه من جديد" "فاتح أربكان" التحالف مع الحزب الحاكم، وقرر خوض الانتخابات البلدية بمرشحيه في البلديات الكبرى.هذا في الوقت الذي يحتدم فيه التنافس بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة التي أعلنت خوضها الانتخابات بشكل منفرد، ومن أبرزها (الشعب الجمهوري، الجيد، التقدم والديمقراطية، الشعوب الديمقراطي الكردي) وذلك نتيجة الخلافات التي نشبت بينها بعد خسارة الانتخابات الرئاسية في مايو الماضي، ورغبة كل منها في إظهار قوتها السياسية وقاعدتها الانتخابية بالمحليات لتعزز موقعها على الخريطة السياسية التركية.مما سبق، نجد أن أداء الاقتصاد التركي سيكون عاملاً حاسماً في تحديد الفائز بالانتخابات المحلية التركية المقبلة، وأن حدوث أي تقدم أو تحسن في معدلات التضخم حتى إجرائها سيصب في صالح الحزب الحاكم الذي سيعزز موقعه في مواجهة أحزاب المعارضة للفوز بها، كما أن المعارضة ستوظف الأزمة الاقتصادية الحالية لحشد المزيد من الأصوات لها؛ ما يعزز حدة التنافس بين الطرفين.

دلالات اختيار محافظ جديد للبنك المركزي التركي